الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير البغوي المسمى بـ «معالم التنزيل» ***
{أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ فَقَالَ لَهُمُ اللَّهُ مُوتُوا ثُمَّ أَحْيَاهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَشْكُرُونَ (243) وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (244) مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً وَاللَّهُ يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (245)}. قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ} قال أكثر أهل التفسير: كانت قرية يقال لها: داوردان قبل واسط بها وقع الطاعون، فخرجت طائفة منها وبقيت طائفة، فهلك أكثر من بقي في القرية وسلم الذين خرجوا، فلما ارتفع الطاعون رجعوا سالمين، فقال الذين بقوا: أصحابنا كانوا أحزم منا، لو صنعنا كما صنعوا لبقينا، ولئن وقع الطاعون ثانية لنخرجن إلى أرض لا وباء بها، فوقع الطاعون من قابل فهرب عامة أهلها، وخرجوا حتى نزلوا واديا أفيح فلما نزلوا المكان الذي يبتغون فيه النجاة ناداهم ملك من أسفل الوادي وآخر من أعلاه: أن موتوا فماتوا جميعا. أخبرنا أبو الحسن السرخسي أنا زاهر بن أحمد أخبرنا أبو إسحاق الهاشمي أنا أبو مصعب عن مالك عن ابن شهاب عن عبد الله بن عامر بن ربيعة أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه خرج إلى الشام فلما جاء سرع بلغه أن الوباء قد وقع بالشام فأخبره عبد الرحمن بن عوف أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إذا سمعتم به بأرض فلا تقدموا عليه وإذا وقع بأرض وأنتم بها فلا تخرجوا فرارا منه" فرجع عمر من سرغ، قال الكلبي ومقاتل والضحاك: إنما فروا من الجهاد وذلك أن ملكا من ملوك بني إسرائيل أمرهم أن يخرجوا إلى قتال عدوهم، فعسكروا ثم جبنوا وكرهوا الموت فاعتلوا وقالوا لملكهم: إن الأرض التي تأتيها بها الوباء فلا نأتيها حتى ينقطع منها الوباء، فأرسل الله عليهم الموت فخرجوا من ديارهم فرارا من الموت فلما رأى الملك ذلك قال: اللهم رب يعقوب وإله موسى قد ترى معصية عبادك فأرهم آية في أنفسهم حتى يعلموا أنهم لا يستطيعون الفرار منك، فلما خرجوا قال لهم الله تعالى: موتوا، عقوبة لهم، فماتوا جميعا وماتت دوابهم كموت رجل واحد فأتى عليهم ثمانية أيام حتى انتفخوا وأروحت أجسادهم فخرج إليهم الناس فعجزوا عن دفنهم، فحظروا عليهم حظيرة دون السباع وتركوهم فيها. واختلفوا في مبلغ عددهم، قال عطاء الخراساني: كانوا ثلاثة آلاف، وقال وهب: أربعة آلاف وقال مقاتل والكلبي: ثمانية آلاف، وقال أبو روق: عشرة آلاف، وقال السدي: بضعة وثلاثون ألفا، وقال ابن جريج: أربعون ألفا، وقال عطاء بن أبي رباح: سبعون ألفا، وأولى الأقاويل: قول من قال كانوا زيادة على عشرة آلاف، لأن الله تعالى قال "وهم ألوف" والألوف جمع الكثير وجمعه القليل آلاف، ولا يقال لما دون عشرة آلاف ألوف، قالوا: فأتت على ذلك مدة وقد بليت أجسادهم وعريت عظامهم فمر عليهم نبي يقال له حزقيل بن بودى ثالث خلفاء بني إسرائيل من بعد موسى عليه السلام، وذلك أن القيم بأمر بني إسرائيل كان بعد موسى يوشع بن نون ثم كالب بن يوقنا ثم حزقيل وكان يقال له ابن العجوز لأن أمه كانت عجوزا فسألت الله الولد بعد ما كبرت وعقمت فوهبه الله تعالى لها، قال الحسن ومقاتل: هو ذو الكفل وسمي حزقيل ذا الكفل لأنه تكفل بسبعين نبيا وأنجاهم من القتل، فلما مر حزقيل على أولئك الموتى وقف عليهم فجعل يتفكر فيهم متعجبا فأوحى الله تعالى إليه تريد أن أريك آية؟ قال نعم: فأحياهم الله وقيل: دعا حزقيل ربه أن يحييهم فأحياهم. وقال مقاتل والكلبي: هم كانوا قوم حزقيل أحياهم الله بعد ثمانية أيام، وذلك أنه لما أصابهم ذلك خرج حزقيل في طلبهم فوجدهم موتى فبكى وقال: يا رب كنت في قوم يحمدونك ويسبحونك ويقدسونك ويكبرونك ويهللونك فبقيت وحيدا لا قوم لي، فأوحى الله تعالى إليه: أني جعلت حياتهم إليك، قال حزقيل: احيوا بإذن الله فعاشوا. قال مجاهد: إنهم قالوا حين أحيوا، سبحانك اللهم ربنا وبحمدك لا إله إلا أنت فرجعوا إلى قومهم وعاشوا دهرا طويلا وسحنة الموت على وجوههم، لا يلبسون ثوبا إلا عاد دسما مثل الكفن حتى ماتوا لآجالهم التي كتبت لهم. قال ابن عباس رضي الله عنهما: وإنها لتوجد اليوم في ذلك السبط من اليهود تلك الريح، قال قتادة: مقتهم الله على فرارهم من الموت فأماتهم عقوبة لهم ثم بعثوا ليستوفوا مدة آجالهم ولو جاءت آجالهم ما بعثوا فذلك قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ} أي ألم تعلم بإعلامي إياك، وهو من رؤية القلب. قال أهل المعاني: هو تعجيب يقول هل رأيت مثلهم؟ كما تقول: ألم تر إلى ما يصنع فلان؟ وكل ما في القرآن ألم تر ولم يعاينه النبي صلى الله عليه وسلم فهذا وجهه {إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ} جمع ألف وقيل مؤتلفة قلوبهم جمع آلف مثل قاعد وقعود، والصحيح أن المراد منه العدد {حَذَرَ الْمَوْتِ} أي خوف الموت {فَقَالَ لَهُمُ اللَّهُ مُوتُوا} أمر تحويل كقوله "كونوا قردة خاسئين" (65- البقرة) {ثُمَّ أَحْيَاهُمْ} بعد موتهم {إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ} قيل هو على العموم في حق الكافة في الدنيا، وقيل على الخصوص في حق المؤمنين {وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَشْكُرُونَ} أما الكفار فلم يشكروا وأما المؤمنون فلم يبلغوا غاية الشكر. {وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ} أي في طاعة الله أعداء الله {وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} قال أكثر أهل التفسير: هذا خطاب للذين أحيوا أمروا بالقتال في سبيل الله فخرجوا من ديارهم فرارا من الجهاد فأماتهم الله ثم أحياهم وأمرهم أن يجاهدوا: وقيل: الخطاب لهذه الأمة، أمرهم بالجهاد. قوله تعالى: {مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا} القرض اسم لكل ما يعطيه الإنسان ليجازى عليه، فسمى الله تعالى عمل المؤمنين له على رجاء ما وعدهم من الثواب قرضا، لأنهم يعملونه لطلب ثوابه، قال الكسائي: القرض ما أسلفت من عمل صالح أو سيئ، وأصل القرض في اللغة القطع، سمي به القرض لأنه يقطع من ماله شيئا يعطيه ليرجع إليه مثله، وقيل في الآية اختصار مجازه: من ذا الذي يقرض عباد الله والمحتاجين من خلقه، كقوله تعالى: "إن الذين يؤذون الله ورسوله" (57- الأحزاب) أي يؤذون عباد الله، كما جاء في الحديث الصحيح عن أبي هريرة رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الله تعالى يقول يوم القيامة يا ابن آدم استطعمتك فلم تطعمني قال: يا رب كيف أطعمك وأنت رب العالمين؟ قال: استطعمك عبدي فلان فلم تطعمه أما علمت أنك لو أطعمته لوجدت ذلك عندي". قوله تعالى: {يُقْرِضُ اللَّهَ} أي ينفق في طاعة الله {قَرْضًا حَسَنًا} قال الحسين بن علي الواقدي: يعني محتسبا، طيبة بها نفسه، وقال ابن المبارك: من مال حلال وقيل لا يمن به ولا يؤذي {فَيُضَاعِفَهُ لَهُ} قرأ ابن كثير وأبو جعفر وابن عامر ويعقوب " فيضعفه " وبابه بالتشديد، ووافق أبو عمرو في سورة الأحزاب وقرأ الآخرون "فيضاعفه " بالألف مخففا وهما لغتان، ودليل التشديد قوله: {أَضْعَافًا كَثِيرَةً} لأن التشديد للتكثير، وقرأ ابن عامر وعاصم ويعقوب بنصب الفاء، وكذلك في سورة الحديد على جواب الاستفهام، وقيل بإضمار أن، وقرأ الآخرون برفع الفاء نسقا على قوله: يقرض {أَضْعَافًا كَثِيرَةً} قال السدي هذا التضعيف لا يعلمه إلا الله عز وجل، وقيل سبعمائة ضعف {وَاللَّهُ يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ} قرأ أهل البصرة وحمزة يبسط، هاهنا وفي الأعراف، بسطة، بالسين كنظائرهما، وقرأهما الآخرون بالصاد قيل يقبض بإمساك الرزق والنفس والتقتير ويبسط بالتوسيع وقيل يقبض بقبول التوبة والصدقة ويبسط بالخلف والثواب، وقيل هو الإحياء والإماتة فمن أماته فقد قبضه ومن مد له في عمره فقد بسط له، وقيل هذا في القلوب، لما أمرهم الله تعالى بالصدقة أخبر أنهم لا يمكنهم ذلك إلا بتوفيقه، قال: يقبض بعض القلوب فلا ينشط بخير ويبسط بعضها فيقدم لنفسه خيرا كما جاء في الحديث "القلوب بين أصبعين من أصابع الرحمن يقلبها الله كيف يشاء" الحديث. {وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} أي إلى الله تعودون فيجزيكم بأعمالكم، وقال قتادة: الهاء راجعة إلى التراب كناية عن غير مذكور، أي من التراب خلقهم وإليه يعودون.
{أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلإ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى إِذْ قَالُوا لِنَبِيٍّ لَهُمُ ابْعَثْ لَنَا مَلِكًا نُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ قَالَ هَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ أَلا تُقَاتِلُوا قَالُوا وَمَا لَنَا أَلا نُقَاتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَدْ أُخْرِجْنَا مِنْ دِيَارِنَا وَأَبْنَائِنَا فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ تَوَلَّوْا إِلا قَلِيلا مِنْهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ (246)}. قوله تعالى {أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلإ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيل} والملأ من القوم: وجوههم وأشرافهم، وأصل الملأ الجماعة من الناس ولا واحد له من لفظه، كالقوم والرهط والإبل والخيل والجيش وجمعه أملاء {مِنْ بَعْدِ مُوسَى} أي من بعد موت موسى {إِذْ قَالُوا لِنَبِيٍّ لَهُمُ} واختلفوا في ذلك النبي فقال قتادة هو يوشع بن نون بن افرائيم بن يوسف عليه السلام وقال السدي: اسمه شمعون، وإنما سمي شمعون، لأن أمه دعت الله أن يرزقها غلاما فاستجاب الله دعاءها فولدت غلاما فسمته سمعون تقول سمع الله تعالى دعائي والسين تصير شينا بالعبرانية، وهو شمعون بن صفية بن علقمة من ولد لاوي بن يعقوب، وقال سائر المفسرين: هو اشمويل وهو بالعبرانية إسماعيل بن يال بن علقمة، وقال مقاتل: هو من نسل هارون، وقال مجاهد: هو أشمويل وهو بالعبرانية إسماعيل بن يال بن علقمة. وقال وهب وابن إسحاق والكلبي وغيرهم: كان سبب مسألتهم إياه ذلك لما مات موسى عليه السلام خلف بعده في بني إسرائيل يوشع بن نون، يقيم فيهم التوراة وأمر الله تعالى حتى قبضه الله تعالى، ثم خلف فيهم كالب كذلك حتى قبضه الله تعالى، ثم خلف حزقيل حتى قبضه الله، ثم عظمت الأحداث في بني إسرائيل ونسوا عهد لله حتى عبدوا الأوثان، فبعث الله إليهم إلياس نبيا فدعاهم إلى الله تعالى، وكانت الأنبياء من بني إسرائيل من بعد موسى يبعثون إليهم بتجديد ما نسوا من التوراة، ثم خلف من بعد إلياس اليسع فكان فيهم ما شاء الله ثم قبضه الله، وخلف فيهم الخلوف وعظمت الخطايا فظهر لهم عدو يقال له البلشاثا، وهم قوم جالوت كانوا يسكنون ساحل بحر الروم بين مصر وفلسطين وهم العمالقة فظهروا على بني إسرائيل وغلبوا على كثير من أرضهم وسبوا كثيرا من ذراريهم وأسروا من أبناء ملوكهم أربعين وأربعمائة غلاما، فضربوا عليهم الجزية وأخذوا توراتهم، ولقي بنو إسرائيل منهم بلاء وشدة ولم يكن لهم نبي يدير أمرهم، وكان سبط النبوة قد هلكوا، فلم يبق منهم إلا امرأة حبلى فحبسوها في بيت رهبة أن تلد جارية فتبدلها بغلام لما ترى من رغبة بني إسرائيل في ولدها وجعلت المرأة تدعو الله أن يرزقها غلاما فولدت غلاما، فسمته أشمويل تقول: سمع الله تعالى دعائي، فكبر الغلام فأسلمته ليتعلم التوراة في بيت المقدس وكفله شيخ من علمائهم وتبناه، فلما بلغ الغلام أتاه جبريل وهو نائم إلى جنب الشيخ وكان لا يأتمن عليه أحدا فدعاه جبريل بلحن الشيخ يا أشمويل، فقام الغلام فزعا إلى الشيخ فقال: يا أبتاه دعوتني؟ فكره الشيخ أن يقول لئلا فيفزع الغلام فقال يا بني ارجع فنم، فرجع الغلام فنام ثم دعاه الثانية فقال الغلام يا أبت دعوتني؟ فقال ارجع فنم فإن دعوتك الثالثة فلا تجبني فرجع الغلام فنام فلما كانت الثالثة ظهر له جبريل فقال له: اذهب إلى قومك فبلغهم رسالة ربك، فإن الله عز وجل قد بعثك فيهم نبيا، فلما أتاهم كذبوه وقالوا: استعجلت بالنبوة ولم تنلك، وقالوا له: إن كنت صادقا فابعث لنا ملكا نقاتل في سبيل الله، آية من نبوتك، وإنما كان قوام أمر بني إسرائيل بالاجتماع على الملوك وطاعة الملوك لأنبيائهم، فكان الملك هو الذي يسير بالجموع، والنبي يقيم له أمره ويشير عليه برشده ويأتيه بالخبر من ربه، قال وهب بن منبه: بعث الله تعالى أشمويل نبيا فلبثوا أربعين سنة بأحسن حال، ثم كان من أمر جالوت والعمالقة ما كان فقالوا لأشمويل: {ابْعَثْ لَنَا مَلِكًا نُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} جزم على جواب الأمر فلما قالوا له ذلك {قَالَ هَلْ عَسَيْتُمْ} استفهام شك. قرأ نافع: عسيتم بكسر السين كل القرآن، وقرأ الباقون بالفتح وهي اللغة الفصيحة بدليل قوله تعالى: {عسى ربكم} {إِنْ كُتِبَ} فرض {عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ} مع ذلك الملك {أَلا تُقَاتِلُوا} أن لا تفوا بما تقولوا معه {قَالُوا وَمَا لَنَا أَلا نُقَاتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّه} فإن قيل فما وجه دخول أن في هذا الموضع والعرب لا تقول مالك أن لا تفعل وإنما يقال ما لك لا تفعل؟ قيل: دخول أن وحذفها لغتان صحيحتان فالإثبات كقوله تعالى: "ما لك أن لا تكون مع الساجدين" (32- الحجر) والحذف كقوله تعالى: "ما لكم لا تؤمنون بالله" (8- الحديد) وقال الكسائي: معناه وما لنا في أن لا نقاتل فحذف "في" وقال الفراء: أي وما يمنعنا أن لا نقاتل في سبيل الله كقوله تعالى: "ما منعك أن لا تسجد" (12- الأعراف) وقال الأخفش: "أن" هاهنا زائدة معناه: وما لنا لا نقاتل في سبيل الله {وَقَدْ أُخْرِجْنَا مِنْ دِيَارِنَا وَأَبْنَائِنَا} أي أخرج من غلب عليهم من ديارهم، ظاهر الكلام العموم وباطنه الخصوص، لأن الذين قالوا لنبيهم: ابعث لنا ملكا نقاتل في سبيل الله كانوا في ديارهم وأوطانهم وإنما أخرج من أسر منهم، ومعنى الآية أنهم قالوا مجيبين لنبيهم: إنما كنا نزهد في الجهاد إذ كنا ممنوعين في بلادنا لا يظهر علينا عدونا، فأما إذا بلغ ذلك منا فنطيع ربنا في الجهاد ونمنع نساءنا وأولادنا. قال الله تعالى: {فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ تَوَلَّوْا} أعرضوا عن الجهاد وضيعوا أمر الله {إِلا قَلِيلا مِنْهُمْ} الذين عبروا النهر مع طالوت واقتصروا على الغرفة على ما سيأتي إن شاء الله تعالى، {وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ}.
{وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكًا قَالُوا أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنَا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِنَ الْمَالِ قَالَ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ وَاللَّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (247)}. {وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكًا} وذلك أن أشمويل سأل الله تعالى أن يبعث لهم ملكا فأتى بعصا وقرن فيه دهن القدس وقيل: له إن صاحبكم الذي يكون ملكا طوله طول هذه العصا وانظر هذا القرن الذي فيه الدهن فإذا دخل عليك رجل فنش الدهن الذي في القرن فهو ملك بني إسرائيل فادهن به رأسه وملكه عليهم، وكان طالوت اسمه بالعبرانية شاول بن قيس من أولاد بنيامين بن يعقوب سمي طالوت لطوله وكان أطول من كل أحد برأسه ومنكبيه، وكان رجلا دباغا يعمل الأديم قاله وهب، وقال السدي: كان رجلا سقاء يسقي على حمار له من النيل فضل حماره فخرج في طلبه، وقيل كان خربندجا، وقال وهب: بل ضلت حمر لأبي طالوت فأرسله وغلاما له في طلبها فمر ببيت أشمويل فقال الغلام لطالوت: لو دخلنا على هذا النبي فسألناه عن أمر الحمر ليرشدنا ويدعو لنا، فدخلا عليه فبينما هما عنده يذكران له شأن الحمر إذ نش الدهن الذي في القرن فقام أشمويل عليه السلام فقاس طالوت بالعصا فكانت طوله، فقال لطالوت قرب رأسك فقربه فدهنه بدهن القدس، ثم قال له: أنت ملك بني إسرائيل الذي أمرني الله تعالى أن أملكك عليهم فقال طالوت: أما علمت أن سبطي أدنى أسباط بني إسرائيل وبيتي أدنى بيوت بني إسرائيل؟ قال بلى قال فبأي آية قال: بآية أنك ترجع وقد وجد أبوك حمره فكان كذلك. ثم قال لبني إسرائيل: إن الله قد بعث لكم طالوت ملكا {قَالُوا أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنَا} أي من أين يكون له الملك علينا {وَنَحْنُ أَحَقُّ} أولى {بِالْمُلْكِ مِنْهُ} وإنما قالوا ذلك لأنه كان في بني إسرائيل سبطان: سبط نبوة وسبط مملكة، فكان سبط النبوة سبط لاوي بن يعقوب ومنه كان موسى وهارون وسبط المملكة سبط يهوذا بن يعقوب ومنه كان داود وسليمان ولم يكن طالوت من أحدهما إنما كان من سبط بنيامين بن يعقوب وكانوا عملوا ذنبا عظيما، كانوا ينكحون النساء على ظهر الطريق نهارا فغضب الله تعالى عليهم ونزع الملك والنبوة عنهم وكانوا يسمونه سبط الإثم، فلما قال لهم نبيهم ذلك أنكروا عليه لأنه لم يكن من سبط المملكة ومع ذلك قالوا هو فقير {وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِنَ الْمَالِ قَالَ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاهُ} اختاره {عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً} فضيلة وسعة {فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ} وذلك أنه كان أعلم بني إسرائيل في وقته وقيل: إنه أتاه الوحي حين أوتي الملك، وقال الكلبي {وزاده بسطة في العلم} بالحرب وفي الجسم بالطول وقيل الجسم بالجمال وكان طالوت أجمل رجل في بني إسرائيل وأعلمهم {وَاللَّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} قيل الواسع ذو السعة وهو الذي يعطي عن غنى، والعليم العالم، وقيل العالم بما كان والعليم بما يكون فقالوا له: فما آية ملكه؟ فقال لهم نبيهم إن آية ملكه أن يأتيكم التابوت فذلك قوله تعالى: {وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ}.
{وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ فِيهِ سَكِينَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَبَقِيَّةٌ مِمَّا تَرَكَ آلُ مُوسَى وَآلُ هَارُونَ تَحْمِلُهُ الْمَلائِكَةُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (248)}. {وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ} وكانت قصة التابوت أن الله تعالى أنزل تابوتا على آدم فيه صورة الأنبياء عليهم السلام، وكان من عود الشمشاذ نحوا من ثلاثة أذرع في ذراعين، فكان عند آدم إلى أن مات ثم بعد ذلك عند شيث ثم توارثها أولاد آدم إلى أن بلغ إبراهيم، ثم كان عند إسماعيل لأنه كان أكبر ولده ثم عند يعقوب ثم كان في بني إسرائيل إلى أن وصل إلى موسى فكان موسى يضع فيه التوراة ومتاعا من متاعه، فكان عنده إلى أن مات موسى عليه السلام، ثم تداولته أنبياء بني إسرائيل إلى وقت أشمويل وكان فيه ذكر الله تعالى {فِيهِ سَكِينَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ} اختلفوا في السكينة ما هي قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه: ريح خجوج هفافة لها رأسان ووجه كوجه الإنسان، وعن مجاهد: شيء يشبه الهرة له رأس كرأس الهرة وذنب كذنب الهرة وله جناحان، وقيل له عينان لهما شعاع وجناحان من زمرد وزبرجد فكانوا إذا سمعوا صوته تيقنوا بالنصر وكانوا إذا خرجوا وضعوا التابوت قدامهم فإذا سار ساروا وإذا وقف وقفوا. وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: هي طست من ذهب من الجنة كان يغسل فيه قلوب الأنبياء، وعن وهب بن منبه قال: هي روح من الله يتكلم إذا اختلفوا في شيء تخبرهم ببيان ما يريدون، وقال عطاء بن أبي رباح: هي ما يعرفون من الآيات فيسكنون إليها، وقال قتادة والكلبي: السكينة فعيلة من السكون أي طمأنينة من ربكم ففي أي مكان كان التابوت اطمأنوا إليه وسكنوا {وَبَقِيَّةٌ مِمَّا تَرَكَ آلُ مُوسَى وَآلُ هَارُونَ} يعني موسى وهارون أنفسهما كان فيه لوحان من التوراة ورضاض الألواح التي تكسرت وكان فيه عصا موسى ونعلاه وعمامة هارون وعصاه وقفيز من المن الذي كان ينزل على بني إسرائيل، فكان التابوت عند بني إسرائيل وكانوا إذا اختلفوا في شيء تكلم وحكم بينهم وإذا حضروا القتال قدموه بين أيديهم فيستفتحون به على عدوهم فلما عصوا وفسدوا سلط الله عليهم العمالقة فغلبوهم على التابوت. وكان السبب في ذلك أنه كان لعيلى العالم الذي ربى إشمويل عليه السلام ابنان شابان وكان عيلى حبرهم وصاحب قربانهم فأحدث ابناه في القربان شيئا لم يكن فيه وذلك أنه كان لعيلى منوط القربان الذي كانوا ينوطونه به كلابين، فما أخرجا كان للكاهن الذي ينوطه، فجعل ابناه كلاليب وكان النساء يصلين في بيت المقدس فيتشبثان بهن فأوحى الله تعالى إلى إشمويل عليه السلام انطلق إلى عيلى فقل له منعك حب الولد من أن تزجر ابنيك عن أن يحدثا في قرباني وقدسي وأن يعصياني فلأنزعن الكهانة منك ومن ولدك ولأهلكنك وإياهم، فأخبر إشمويل عيلى بذلك ففزع فزعا شديدا فسار إليهم عدو ممن حولهم فأمر ابنيه أن يخرجا بالناس فيقاتلا ذلك العدو فخرجا وأخرجا معهما التابوت فلما تهيؤوا للقتال جعل عيلى يتوقع الخبر ماذا صنعوا فجاءه رجل وهو قاعد على كرسيه وأخبره أن الناس قد انهزموا وأن ابنيك قد قتلا قال فما فعل التابوت؟ قال ذهب به العدو، فشهق ووقع على قفاه من كرسيه ومات فمرج أمر بني إسرائيل وتفرقوا إلى أن بعث الله طالوت ملكا فسألوه البينة فقال لهم نبيهم: إن آية ملكه أن يأتيكم التابوت. وكانت قصة التابوت، أن الذين سبوا التابوت أتوا به قرية من قرى فلسطين يقال لها ازدود وجعلوه في بيت صنم لهم، ووضعوه تحت الصنم الأعظم، فأصبحوا من الغد والصنم تحته فأخذوه ووضعوه فوقه وسمروا قدمي الصنم على التابوت فأصبحوا وقد قطعت يد الصنم ورجلاه وأصبح ملقى تحت التابوت وأصبحت أصنامهم منكسة فأخرجوه من بيت الصنم ووضعوه في ناحية من مدينتهم فأخذ أهل تلك الناحية وجع في أعناقهم حتى هلك أكثرهم فقال بعضهم لبعض: أليس قد علمتم أن إله بني إسرائيل لا يقوم له شيء، فأخرجوه إلى قرية كذا فبعث الله على أهل تلك القرية فأرا فكانت الفأرة تبيت مع الرجل فيصبح ميتا قد أكلت ما في جوفه فأخرجوه إلى الصحراء فدفنوه في مخرأة لهم فكان كل من تبرز هناك أخذه الباسور والقولنج فتحيروا، فقالت لهم امرأة كانت عندهم من سبي بني إسرائيل من أولاد الأنبياء لا تزالون ترون ما تكرهون ما دام هذا التابوت فيكم فأخرجوه عنكم، فأتوا بعجلة بإشارة تلك المرأة وحملوا عليها التابوت ثم علقوها على ثورين وضربوا جنوبهما فأقبل الثوران يسيران ووكل الله تعالى بهما أربعة من الملائكة يسوقونهما فأقبلا حتى وقفا على أرض بني إسرائيل فكسرا نيريهما وقطعا حبالهما ووضعا التابوت في أرض فيها حصاد بني إسرائيل ورجعا إلى أرضهما فلم يرع بني إسرائيل إلا بالتابوت فكبروا وحمدوا الله فذلك قوله تعالى {تَحْمِلُهُ الْمَلائِكَةُ} أي تسوقه، وقال ابن عباس رضي الله عنهما: جاءت الملائكة بالتابوت تحمله بين السماء والأرض وهم ينظرون إليه حتى وضعته عند طالوت، وقال الحسن: كان التابوت مع الملائكة في السماء فلما ولي طالوت الملك حملته الملائكة ووضعته بينهم، وقال قتادة بل كان التابوت في التيه خلفه موسى عند يوشع بن نون فبقي هناك فحملته الملائكة حتى وضعته في دار طالوت فأقروا بملكه {إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً} لعبرة {لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} قال ابن عباس رضي الله عنهما: إن التابوت وعصا موسى في بحيرة طبرية وأنهما يخرجان قبل يوم القيامة.
{فَلَمَّا فَصَلَ طَالُوتُ بِالْجُنُودِ قَالَ إِنَّ اللَّهَ مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي إِلا مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ فَشَرِبُوا مِنْهُ إِلا قَلِيلا مِنْهُمْ فَلَمَّا جَاوَزَهُ هُوَ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ قَالُوا لا طَاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ قَالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُو اللَّهِ كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ (249)}. {فَلَمَّا فَصَلَ طَالُوتُ بِالْجُنُودِ} أي خرج بهم، وأصل الفصل: القطع، يعني قطع مستقره شاخصا إلى غيره فخرج طالوت من بيت المقدس بالجنود، وهم يومئذ سبعون ألف مقاتل، وقيل: ثمانون ألفا لم يتخلف عنه إلا كبير لهرمه أو مريض لمرضه أو معذور لعذره، وذلك أنهم لما رأوا التابوت لم يشكوا في النصر، فتسارعوا إلى الجهاد، فقال طالوت: لا حاجة لي في كل ما أرى، لا يخرج معي رجل بنى بناء لم يفرغ منه ولا صاحب تجارة يشتغل بها ولا رجل عليه دين ولا رجل تزوج امرأة ولم يبن بها ولا أبتغي إلا الشباب النشيط الفارغ فاجتمع له ثمانون ألفا ممن شرطه وكان في حر شديد فشكوا قلة الماء بينهم وبين عدوهم فقالوا: إن المياه قليلة لا تحملنا فادع الله أن يجري لنا نهرا. {قَالَ} طالوت {إِنَّ اللَّهَ مُبْتَلِيكُمْ} مختبركم ليرى طاعتكم- وهو أعلم- {بِنَهَر} قال ابن عباس والسدي: هو نهر فلسطين، وقال قتادة نهر بين الأردن وفلسطين عذب {فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي} أي ليس من أهل ديني وطاعتي {وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ} يشربه {فَإِنَّهُ مِنِّي إِلا مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ} قرأ أهل الحجاز وأبو عمرو "غرفة" بفتح الغين وقرأ الآخرون بضم الغين وهما لغتان، قال الكسائي: الغرفة بالضم الذي يحصل في الكف من الماء إذا غرف، والغرفة: بالفتح الاغتراف فالضم اسم والفتح مصدر {فَشَرِبُوا مِنْهُ إِلا قَلِيلا مِنْهُمْ} نصب على الاستثناء واختلفوا في القليل الذين لم يشربوا، فقال السدي: كانوا أربعة آلاف وقال غيره: ثلاثمائة وبضعة عشر وهو الصحيح. أخبرنا عبد الواحد المليحي أنا أحمد بن عبد الله النعيمي أنا محمد بن يوسف أنا محمد بن إسماعيل أنا عبد الله بن رجاء أنا إسرائيل عن أبي إسحاق عن البراء قال: كنا أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم نتحدث أن عدة أصحاب بدر على عدة أصحاب طالوت الذين جاوزوا معه النهر ولم يجاوز معه إلا مؤمن بضعة عشر وثلاثمائة. ويروى ثلاثمائة وثلاثة عشر فلما وصلوا إلى النهر وقد ألقي عليهم العطش فشرب منه الكل إلا هذا العدد القليل فمن اغترف غرفة كما أمر الله قوي قلبه وصح إيمانه وعبر النهر سالما وكفته تلك الغرفة الواحدة لشربه وحمله ودوابه، والذين شربوا وخالفوا أمر الله اسودت شفاههم وغلبهم العطش فلم يرووا وبقوا على شط النهر وجبنوا عن لقاء العدو فلم يجاوزوا ولم يشهدوا الفتح. وقيل كلهم جاوزوا ولكن لم يحضر القتال إلا الذين لم يشربوا {فَلَمَّا جَاوَزَهُ} يعني النهر {هُو} يعني طالوت {وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ} يعني القليل {قَالُوا} يعني الذين شربوا وخالفوا أمر الله، وكانوا أهل شك ونفاق {لا طَاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ} قال ابن عباس رضي الله عنهما والسدي: فانحرفوا ولم يجاوزوا {قَالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ} يستيقنون {أَنَّهُمْ مُلاقُو اللَّهِ} الذين ثبتوا مع طالوت {كَمْ مِنْ فِئَةٍ} جماعة وهي جمع لا واحد له من لفظه وجمعه فئات وفئون في الرفع وفئين في الخفض والنصب {قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ} بقضائه وإرادته {وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ} بالنصر والمعونة.
{وَلَمَّا بَرَزُوا لِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ قَالُوا رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ (250)}. {وَلَمَّا بَرَزُوا} يعني طالوت وجنوده يعني المؤمنين {لِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ} المشركين ومعنى برزوا صاروا بالبراز من الأرض وهو ما ظهر واستوى {قَالُوا رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا} أنزل واصبب {صَبْرًا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا} قلوبنا {وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ}.
{فَهَزَمُوهُمْ بِإِذْنِ اللَّهِ وَقَتَلَ دَاوُدُ جَالُوتَ وَآتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشَاءُ وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الأرْضُ وَلَكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ (251) تِلْكَ آيَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (252)}. {فَهَزَمُوهُمْ بِإِذْنِ اللَّهِ} أي بعلم الله تعالى {وَقَتَلَ دَاوُدُ جَالُوتَ} وصفة قتله: قال أهل التفسير عبر النهر مع طالوت فيمن عبر إيشا أبو داود في ثلاثة عشر ابنا له وكان داود أصغرهم وكان يرمي بالقذافة فقال لأبيه يوما يا أبتاه ما أرمي بقذافتي شيئا إلا صرعته فقال: أبشر يا بني فإن الله جعل رزقك في قذافتك، ثم أتاه مرة أخرى فقال: يا أبتاه لقد دخلت بين الجبال فوجدت أسدا رابضا فركبته فأخذت بأذنيه فلم يهجني، فقال: أبشر يا بني فإن هذا خير يريده الله بك ثم أتاه يوما آخر فقال: يا أبتاه إني لأمشي بين الجبال فأسبح فما يبقى جبل إلا سبح معي، فقال: أبشر يا بني فإن هذا خير أعطاكه الله تعالى فأرسل جالوت إلى طالوت أن ابرز إلي أو أبرز إلي من يقاتلني فإن قتلني فلكم ملكي وإن قتلته فلي ملككم فشق ذلك على طالوت فنادى في عسكره من قتل جالوت زوجته ابنتي وناصفته ملكي فهاب الناس جالوت فلم يجبه أحد فسأل طالوت نبيهم أن يدعو الله تعالى فدعا الله في ذلك، فأتى بقرن فيه دهن القدس وتنور في حديد فقيل إن صاحبكم الذي يقتل جالوت هو الذي يوضع هذا القرن على رأسه فيغلي الدهن حتى يدهن منه رأسه ولا يسيل على وجهه ويكون على رأسه كهيئة الإكليل ويدخل في هذا التنور فيملؤه ولا يتقلقل فيه، فدعا طالوت بني إسرائيل فجربهم فلم يوافقه منهم أحد فأوحى الله إلى نبيهم أن في ولد إيشا من يقتل الله به جالوت فدعا طالوت إيشا فقال: اعرض علي بنيك فأخرج له اثنى عشر رجلا أمثال السواري فجعل يعرضهم على القرن فلا يرى شيئا فقال: لإيشا هل بقي لك ولد غيرهم فقال لا فقال النبي: يا رب إنه زعم أن لا ولد له غيرهم، فقال كذب، فقال النبي: إن ربي كذبك فقال: صدق الله يا نبي الله إن لي ابنا صغيرا يقال له داود استحييت أن يراه الناس لقصر قامته وحقارته فخلفته في الغنم يرعاها وهو في شعب كذا وكذا، وكان داود رجلا قصيرا مسقاما مصفارا أزرق أمعر، فدعاه طالوت، ويقال: بل خرج طالوت إليه فوجد الوادي قد سال بينه وبين الزريبة التي كان يريح إليها، فوجده يحمل شاتين يجيز بهما السيل ولا يخوض بهما الماء فلما رآه قال: هذا هو لا شك فيه، هذا يرحم البهائم فهو بالناس أرحم فدعاه ووضع القرن على رأسه ففاض فقال طالوت: هل لك أن تقتل جالوت وأزوجك ابنتي وأجري خاتمك في ملكي قال: نعم قال: وهل آنست من نفسك شيئا تتقوى به على قتله؟ قال: نعم، أنا أرعى فيجيء الأسد أو النمر أو الذئب فيأخذ شاة فأقوم إليه فأفتح لحييه عنها وأضرقها إلى قفاه، فرده إلى عسكره، فمر داود عليه السلام في طريقه بحجر فناداه الحجر يا داود احملني فإني حجر هارون الذي قتل بي ملك كذا، فحمله في مخلاته، ثم مر بحجر آخر فقال: احملني فإني حجر موسى الذي قتل بي ملك كذا وكذا فحمله في مخلاته، ثم مر بحجر آخر فقال: احملني فإني حجرك الذي تقتل بي جالوت فوضعها في مخلاته، فلما تصافوا للقتال وبرز جالوت وسأل المبارزة انتدب له داود فأعطاه طالوت فرسا ودرعا وسلاحا فلبس السلاح وركب الفرس وسار قريبا ثم انصرف إلى الملك فقال: من حوله جبن الغلام فجاء فوقف على الملك فقال: ما شأنك؟ فقال: إن الله إن لم ينصرني لم يغن عني هذا السلاح شيئا، فدعني أقاتل كما أريد، قال: فافعل ما شئت قال: نعم، فأخذ داود مخلاته فتقلدها وأخذ المقلاع ومضى نحو جالوت وكان جالوت من أشد الرجال وأقواهم، وكان يهزم الجيوش وحده وكان له بيضة فيها ثلاثمائة رطل حديد فلما نظر إلى داود ألقي في قلبه الرعب فقال له: أنت تبرز إلي؟ قال: نعم. وكان جالوت على فرس أبلق عليه السلاح التام، قال: فأتيتني بالمقلاع والحجر كما يؤتى الكلب؟ قال: نعم أنت شر من الكلب، قال لا جرم لأقسمن لحمك بين سباع الأرض وطير السماء قال داود: أو يقسم الله لحمك، فقال داود: باسم إله إبراهيم وأخرج حجرا ثم أخرج الآخر وقال: باسم إله إسحاق ووضعه في مقلاعه ثم أخرج الثالث وقال: باسم إله يعقوب ووضعه في مقلاعه فصارت كلها حجرا واحدا ودور داود المقلاع ورمى به فسخر الله له الريح حتى أصاب الحجر أنف البيضة فخالط دماغه وخرج من قفاه وقتل من ورائه ثلاثين رجلا وهزم الله تعالى الجيش وخر جالوت قتيلا فأخذه يجره حتى ألقاه بين يدي طالوت، ففرح المسلمون فرحا شديدا، وانصرفوا إلى المدينة سالمين غانمين والناس يذكرون داود فجاء داود طالوت وقال انجز لي ما وعدتني، فقال: أتريد ابنة الملك بغير صداق؟ فقال داود: ما شرطت علي صداقا وليس لي شيء فقال لا أكلفك إلا ما تطيق أنت رجل جريء وفي حيالنا أعداء لنا غلف فإذا قتلت منهم مائتي رجل وجئتني بغلفهم زوجتك ابنتي فأتاهم فجعل كلما قتل واحدا منهم نظم غلفته في خيط حتى نظم غلفهم فجاء بها إلى طالوت فألقى إليه وقال ادفع إلي امرأتي فزوجه ابنته وأجرى خاتمه في ملكه، فمال الناس إلى داود وأحبوه وأكثروا ذكره، فحسده طالوت وأراد قتله فأخبر ذلك ابنة طالوت رجل يقال له ذو العينين فقالت لداود إنك مقتول في هذه الليلة قال: ومن يقتلني؟ قالت أبي قال وهل أجرمت جرما قالت: حدثني من لا يكذب ولا عليك أن تغيب هذه الليلة حتى تنظر مصداق ذلك، فقال: لئن كان أراد الله ذلك لا أستطيع خروجا ولكن ائتيني بزق خمر فأتت به فوضعه في مضجعه على السرير وسجاه ودخل تحت السرير فدخل طالوت نصف الليل فقال لها: أين بعلك؟ فقالت: هو نائم على السرير فضربه بالسيف ضربة فسال الخمر فلما وجد ريح الشراب قال: يرحم الله داود ما كان أكثر شربه للخمر، وخرج. فلما أصبح علم أنه لم يفعل شيئا فقال: إن رجلا طلبت منه ما طلبت لخليق أن لا يدعني حتى يدرك مني ثأره فاشتد حجابه وحراسه وأغلق دونه أبوابه، ثم إن داود أتاه ليلة وقد هدأت العيون فأعمى الله سبحانه الحجبة وفتح له الأبواب فدخل عليه وهو نائم على فراشه، فوضع سهما عند رأسه وسهما عند رجليه وسهما عن يمينه وسهما عن شماله ثم خرج، فلما استيقظ طالوت بصر بالسهام فعرفها فقال: يرحم الله تعالى داود هو خير مني ظفرت به فقصدت قتله وظفر بي فكف عني ولو شاء لوضع هذا السهم في حلقي وما أنا بالذي آمنه، فلما كانت القابلة أتاه ثانيا وأعمى الله الحجاب فدخل عليه وهو نائم فأخذ إبريق طالوت الذي كان يتوضأ منه وكوزه الذي كان يشرب منه وقطع شعرات من لحيته وشيئا من هدب ثيابه، ثم خرج وهرب وتوارى، فلما أصبح طالوت ورأى ذلك سلط على داود العيون وطلبه أشد الطلب فلم يقدر عليه، ثم إن طالوت ركب يوما فوجد داود يمشي في البرية فقال: اليوم أقتله فركض على أثره، فاشتد داود وكان إذا فزع لم يدرك، فدخل غارا فأوحى الله تعالى إلى العنكبوت فنسج عليه بيتا فلما انتهى طالوت إلى الغار ونظر إلى بناء العنكبوت قال: لو كان دخل هاهنا لخرق بناء العنكبوت فتركه ومضى، فانطلق داود وأتى الجبل مع المتعبدين فتعبد فيه فطعن العلماء والعباد على طالوت في شأن داود فجعل طالوت لا ينهاه أحد عن قتل داود إلا قتله، وأغرى بقتل العلماء فلم يكن يقدر على عالم في بني إسرائيل يطيق قتله إلا قتله، حتى أتى بامرأة تعلم اسم الله الأعظم فأمر خبازه بقتلها فرحمها الخباز وقال: لعلنا نحتاج إلى عالم فتركها فوقع في قلب طالوت التوبة وندم على ما فعل، وأقبل على البكاء حتى رحمه الناس. وكان كل ليلة يخرج إلى القبور فيبكي وينادي: أنشد الله عبدا يعلم أن لي توبة إلا أخبرني بها، فلما أكثر عليهم ناداه مناد من القبور يا طالوت أما ترضى أن قتلتنا حتى تؤذينا أمواتا فازداد بكاء وحزنا فرحمه الخباز فقال: ما لك أيها الملك؟ قال: هل تعلم لي في الأرض عالما أسأله هل لي من توبة فقال الخباز: إنما مثلك مثل ملك نزل قرية عشاء فصاح الديك فتطير منه فقال: لا تتركوا في القرية ديكا إلا ذبحتموه، فلما أراد أن ينام قال لأصحابه: إذا صاح الديك فأيقظونا حتى ندلج فقالوا له: وهل تركت ديكا نسمع صوته؟ ولكن هل تركت عالما في الأرض؟ فازداد حزنا وبكاء فلما رأى الخباز ذلك قال له: أرأيتك إن دللتك على عالم لعلك أن تقتله قال: لا فتوثق عليه الخباز فأخبره أن المرأة العالمة عنده قال: انطلق بي إليها أسألها هل لي من توبة؟ وكانت من أهل بيت يعلم الاسم الأعظم فإذا فنيت رجالهم علمت نساؤهم فلما بلغ طالوت الباب قال الخباز إنها إذا رأتك فزعت فخلفه خلفه ثم دخله عليها فقال لها: ألست أعظم الناس منة عليك أنجيتك من القتل وآويتك، قالت: بلى، قال: فإن لي إليك حاجة هذا طالوت يسأل هل لي من توبة؟ فغشي عليها من الفرق فقال لها: إنه لا يريد قتلك ولكن يسألك هل له من توبة؟ قالت: لا والله لا أعلم لطالوت توبة، ولكن هل تعلمون مكان قبر نبي؟ فانطلق بهما إلى قبر إشمويل فصلت ودعت ثم نادت يا صاحب القبر فخرج إشمويل من القبر ينفض رأسه من التراب فلما نظر إليهم ثلاثتهم قال: ما لكم أقامت القيامة؟ قالت: لا ولكن طالوت يسألك هل له من توبة؟ قال إشمويل: يا طالوت ما فعلت بعدي؟ قال: لم أدع من الشر شيئا إلا فعلته وجئت أطلب التوبة قال: كم لك من الولد؟ قال عشرة رجال، قال: ما أعلم لك من توبة إلا أن تتخلى من ملكك وتخرج أنت وولدك في سبيل الله، ثم تقدم ولدك حتى يقتلوا بين يديك ثم تقاتل أنت حتى تقتل آخرهم؟ ثم رجع إشمويل إلى القبر وسقط ميتا، ورجع طالوت أحزن ما كان رهبة أن لا يتابعه ولده وقد بكى حتى سقطت أشفار عينيه ونحل جسمه فدخل عليه أولاده فقال لهم: أرأيتم لو دفعت إلى النار هل كنتم تفدونني؟ قالوا: نعم نفديك بما قدرنا عليه قال: فإنها النار إن لم تفعلوا ما أقول لكم قالوا: فاعرض علينا فذكر لهم القصة، قالوا: وإنك لمقتول قال: نعم، قالوا: فلا خير لنا في الحياة بعدك قد طابت أنفسنا بالذي سألت، فتجهز بماله وولده فتقدم ولده وكانوا عشرة فقاتلوا بين يديه حتى قتلوا ثم شد هو بعدهم حتى قتل فجاء قاتله إلى داود ليبشره وقال: قتلت عدوك فقال داود: ما أنت بالذي تحيا بعده، فضرب عنقه، وكان ملك طالوت إلى أن قتل أربعين سنة وأتى بنو إسرائيل إلى داود وأعطوه خزائن طالوت وملكوه على أنفسهم. قال الكلبي والضحاك: ملك داود بعد قتل طالوت سبع سنين ولم يجتمع بنو إسرائيل على ملك واحد إلا على داود فذلك قوله تعالى: {وَآتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ} يعني: النبوة؛ جمع الله لداود بين الملك والنبوة ولم يكن من قبل، بل كان الملك في سبط والنبوة في سبط، وقيل: الملك والحكمة هو العلم مع العمل. قوله تعالى: {وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشَاءُ} قال الكلبي وغيره يعني: صنعة الدروع وكان يصنعها ويبيعها وكان لا يأكل إلا من عمل يده، وقيل منطق الطير وكلام الحكل والنمل والكلام الحسن وقيل هو الزبور وقيل هو الصوت الطيب والألحان فلم يعط الله أحدا من خلقه مثل صوته، وكان إذا قرأ الزبور تدنو الوحوش حتى يأخذ بأعناقها وتظله الطير مصيخة له ويركد الماء الجاري ويسكن الريح. وروى الضحاك عن ابن عباس رضي الله عنهما هو أن الله تعالى أعطاه سلسلة موصولة بالمجرة ورأسها عند صومعته قوتها قوة الحديد ولونها لون النار وحلقها مستديرة مفصلة بالجواهر مدسرة بقضبان اللؤلؤ الرطب فلا يحدث في الهواء حدث إلا صلصلت السلسلة، فعلم داود ذلك الحدث، ولا يمسها ذو عاهة إلا برئ، وكانوا يتحاكمون إليها بعد داود عليه السلام إلى أن رفعت، فمن تعدى على صاحبه وأنكر له حقا أتى السلسلة فمن كان صادقا مد يده إلى السلسلة فتناولها، ومن كان كاذبا لم ينلها فكانت كذلك إلى أن ظهر بهم المكر والخديعة فبلغنا أن بعض ملوكها أودع رجلأ جوهرة ثمينة فلما استردها أنكر فتحاكما إلى السلسلة، فعمد الذي عنده الجوهرة إلى عكازة فنقرها وضمنها الجوهرة واعتمد عليها حتى حضر السلسلة فقال صاحب الجوهرة: رد علي الوديعة فقال صاحبه: ما أعرف لك عندي من وديعة فإن كنت صادقا فتناول السلسلة، فتناولها بيده فقيل للمنكر قم أنت فتناولها فقال لصاحب الجوهرة: خذ عكازي هذه فاحفظها حتى أتناول السلسلة فأخذها عنده ثم قام المنكر نحو السلسلة فأخذها فقال الرجل: اللهم إن كنت تعلم أن هذه الوديعة التي يدعيها علي قد وصلت إليه فقرب مني السلسلة فمد يده فتناولها فتعجب القوم وشكوا فيها فأصبحوا وقد رفع الله السلسلة. قوله تعالى: {وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ} قرأ أهل المدينة ويعقوب " دفاع الله ") بالألف هاهنا وفي سورة الحج، وقرأ الآخرون بغير الألف لأن الله تعالى لا يغالبه أحد وهو الدافع وحده، ومن قرأ بالألف قال: قد يكون الدفاع من واحد مثل قول العرب: أحسن الله عنك الدفاع، قال ابن عباس ومجاهد: ولولا دفع الله بجنود المسلمين لغلب المشركون على الأرض، فقتلوا المؤمنين، وخربوا المساجد والبلاد، وقال سائر المفسرين: لولا دفع الله بالمؤمنين والأبرار عن الكفار والفجار لهلكت الأرض بمن فيها، ولكن الله يدفع بالمؤمن عن الكافر وبالصالح عن الفاجر. أخبرنا أحمد بن إبراهيم الشريحي أخبرنا أبو إسحاق الثعلبي أنا أبو عبد الله بن فنجويه أنا أبو بكر بن خرجة أنا عبد الله بن أحمد بن حنبل أنا أبو حميد الحمصي أنا يحيى بن سعيد العطار أنا حفص بن سليمان عن محمد بن سوقة عن وبرة عن عبد الرحمن عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الله عز وجل ليدفع بالمسلم الصالح عن مائة أهل بيت من جيرانه البلاء" ثم قرأ "ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض" {لَفَسَدَتِ الأرْضُ وَلَكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ}.
{تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَلَكِنِ اخْتَلَفُوا فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ وَمِنْهُمْ مَنْ كَفَرَ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُوا وَلَكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ (253) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا بَيْعٌ فِيهِ وَلا خُلَّةٌ وَلا شَفَاعَةٌ وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ (254)}. {تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ} أي كلمه الله تعالى يعني موسى عليه السلام {وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ} يعني محمدا صلى الله عليه وسلم، قال الشيخ الإمام رحمة الله عليه: وما أوتي نبي آية إلا وقد أوتي نبينا مثل تلك الآية وفضل على غيره بآيات مثل: انشقاق القمر بإشارته، وحنين الجذع على مفارقته، وتسليم الحجر والشجر عليه، وكلام البهائم والشهادة برسالته، ونبع الماء من بين أصابعه، وغير ذلك من المعجزات والآيات التي لا تحصى، وأظهرها القرآن الذي عجز أهل السماء وأهل الأرض عن الإتيان بمثله. أخبرنا أبو بكر يعقوب بن أحمد بن محمد بن علي الصيرفي، أنا أبو الحسن محمد بن أحمد المخلدي، أخبرنا أبو العباس بن محمد بن إسحاق الثقفي، أنا قتيبة بن سعيد، أنا الليث بن سعد عن سعيد بن أبي سعيد عن أبيه عن أبي هريرة رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "ما من نبي من الأنبياء إلا وقد أعطي من الآيات ما آمن على مثله البشر، وإنما كان الذي أوتيته وحيا أوحاه الله تعالى إلي فأرجو أن أكون أكثرهم تابعا يوم القيامة". أخبرنا عبد الواحد بن أحمد المليحي، أنا أحمد بن عبد الله النعيمي، أنا محمد بن يوسف، أنا محمد بن إسماعيل، أنا محمد بن سنان، أخبرنا هشيم، أنا سيار، أنا يزيد الفقير، أنا جابر بن عبد الله رضي الله عنهما، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "أعطيت خمسا لم يعطهن أحد قبلي: نصرت بالرعب مسيرة شهر، وجعلت لي الأرض مسجدا وطهورا، فأيما رجل من أمتي أدركته الصلاة فليصل، وأحلت لي الغنائم ولم تحل لأحد قبلي، وأعطيت الشفاعة، وكان النبي يبعث إلى قومه خاصة وبعثت إلى الناس عامة". أخبرنا أبو عبد الله محمد بن الفضل الخرقي أنا أبو الحسن علي بن عبد الله الطيسفوني، أنا عبد الله بن عمر الجوهري، أنا أحمد بن علي الكشميهني، أنا علي بن حجر أنا إسماعيل بن جعفر، أنا العلاء بن عبد الرحمن عن أبيه عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "فضلت على الأنبياء بست: أوتيت جوامع الكلم، ونصرت بالرعب، وأحلت لي الغنائم، وجعلت لي الأرض مسجدا وطهورا وأرسلت إلى الخلق كافة، وختم بي النبيون". قوله تعالى: {وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ} أي من بعد الرسل {مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَلَكِنِ اخْتَلَفُوا فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ} ثبت على إيمانه بفضل الله {وَمِنْهُمْ مَنْ كَفَرَ} بخذلانه {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُوا} أعاده تأكيدا {وَلَكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ} يوفق من يشاء فضلا ويخذل من يشاء عدلا. سأل رجل علي بن أبي طالب رضي الله عنه فقال: يا أمير المؤمنين، أخبرني عن القدر؟ فقال: طريق مظلم لا تسلكه، فأعاد السؤال فقال: بحر عميق فلا تلجه، فأعاد السؤال، فقال: سر الله في الأرض قد خفي عليك فلا تفتشه. قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاكُمْ} قال السدي: أراد به الزكاة المفروضة وقال غيره: أراد به صدقة التطوع والنفقة في الخير {مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا بَيْعٌ فِيهِ} أي لا فداء فيه، سماه بيعا لأن الفداء شراء نفسه {وَلا خُلَّةٌ} لا صداقة {وَلا شَفَاعَةٌ} إلا بإذن الله، قرأ ابن كثير ونافع وأهل البصرة كلها بالنصب، وكذلك في سورة إبراهيم الآية 31) "لا بيع فيه ولا خلال" وفي سورة الطور الآية 23) "لا لغو فيها ولا تأثيم" وقرأ الآخرون كلها بالرفع والتنوين {وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ} لأنهم وضعوا العبادة في غير موضعها.
{اللَّهُ لا إِلَهَ إِلا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأرْضِ مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلا بِإِذْنِهِ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلا بِمَا شَاءَ وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضَ وَلا يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ (255) لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لا انْفِصَامَ لَهَا وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (256)}. قوله عز وجل: {اللَّهُ لا إِلَهَ إِلا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ} أخبرنا عبد الواحد بن أحمد المليحي أخبرنا أبو منصور محمد بن سمعان أخبرنا أبو جعفر محمد بن أحمد بن عبد الجبار الرياني أنا حميد بن زنجويه أنا ابن أبي شيبة أنا عبد الأعلى عن الجريري عن أبي السليل عن عبد الله بن رباح الأنصاري عن أبي بن كعب رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "أبا المنذر أي آية من كتاب الله أعظم" قلت {اللَّهُ لا إِلَهَ إِلا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ} قال فضرب في صدري ثم قال: "ليهنك العلم" ثم قال: "والذي نفس محمد بيده إن لهذه الآية لسانا وشفتين تقدس الملك عند ساق العرش". أخبرنا عبد الواحد بن أحمد المليحي، أخبرنا أحمد بن عبد الله النعيمي، أنا محمد بن وسف عن محمد بن إسماعيل قال عثمان بن الهيثم أبو عمرو: أخبرنا عوف عن محمد بن سيرين عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: وكلني رسول الله صلى الله عليه وسلم بحفظ زكاة رمضان فأتاني آت فجعل يحثو من الطعام فأخذته وقلت: لأرفعنك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: إني محتاج وعلي عيال ولي حاجة شديدة قال: فخليت سبيله فأصبحت فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم "يا أبا هريرة ما فعل أسيرك البارحة؟ " قلت: يا رسول الله شكا حاجة شديدة وعيالا فرحمته فخليت سبيله قال: "أما إنه قد كذبك وسيعود" فعرفت أنه سيعود لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم إنه سيعود، فرصدته فجاء يحثو من الطعام فأخذته فقلت: لأرفعنك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: دعني فإني محتاج وعلي عيال ولا أعود، فرحمته فخليت سبيله فأصبحت فقال: لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يا أبا هريرة ما فعل أسيرك" قلت: يا رسول الله شكا حاجة شديدة وعيالا فرحمته وخليت سبيله قال: "أما إنه قد كذبك وسيعود" فرصدته الثالثة فجاء يحثو من الطعام فأخذته فقلت: لأرفعنك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهذا آخر ثلاث مرات إنك تزعم لا تعود ثم تعود قال: دعني أعلمك كلمات ينفعك الله بها قلت: ما هي؟ قال: إذا أويت إلى فراشك فاقرأ آية الكرسي {اللَّهُ لا إِلَهَ إِلا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ} حتى تختم الآية فإنك لن يزال عليك من الله حافظ ولا يقربك شيطان حتى تصبح، فخليت سبيله، فأصبحت فقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما فعل أسيرك البارحة" قلت يا رسول الله زعم أنه يعلمني كلمات ينفعني الله بها فخليت سبيله قال ما هي؟ قلت: قال لي إذا أويت إلى فراشك فاقرأ آية الكرسي من أولها حتى تختم الآية {اللَّهُ لا إِلَهَ إِلا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ} وقال: لن يزال عليك من الله حافظ ولا يقربك شيطان حتى تصبح، وكانوا أحرص الناس على الخير، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "أما إنه قد صدقك وهو كذوب، تعلم من تخاطب من ثلاث ليال يا أبا هريرة" قلت: لا قال "ذاك شيطان". أخبرنا عبد الواحد المليحي أخبرنا أبو منصور السمعاني أخبرنا أبو جعفر الرياني أخبرنا حميد بن زنجويه أخبرنا يحيى بن يحيى أخبرنا أبو معاوية عن عبد الرحمن بن أبي بكر هو المليكي عن زرارة بن مصعب عن أبي سلمة بن عبد الرحمن عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من قرأ حين يصبح آية الكرسي وآيتين من أول "حم تنزيل الكتاب من الله العزيز العليم" (2- غافر) حفظ في يومه ذلك حتى يمسي ومن قرأهما حين يمسي حفظ في ليلته تلك حتى يصبح". قوله تعالى: {اللَّه} رفع بالابتداء وخبره في {لا إِلَهَ إِلا هُوَ الْحَيُّ} الباقي الدائم على الأبد وهو من له الحياة، والحياة صفة الله تعالى {الْقَيُّوم} قرأ عمر وابن مسعود "القيام" وقرأ علقمة "القيم" وكلها لغات بمعنى واحد، قال مجاهد {الْقَيُّوم} القائم على كل {شيء} وقال الكلبي: القائم على كل نفس بما كسبت وقيل هو القائم بالأمور. وقال أبو عبيدة: الذي لا يزول {لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ} السنة: النعاس وهو النوم الخفيف، والوسنان بين النائم واليقظان يقال منه وسن يسن وسنا وسنة والنوم هو الثقيل المزيل للقوة والعقل، قال المفضل الضبي: السنة في الرأس والنوم في القلب، فالسنة أول النوم وهو النعاس، وقيل السنة في الرأس والنعاس في العين والنوم في القلب فهو غشية ثقيلة تقع على القلب تمنع المعرفة بالأشياء، نفى الله تعالى عن نفسه النوم لأنه آفة وهو منزه عن الآفات ولأنه تغير ولا يجوز عليه التغير. أخبرنا أحمد بن إبراهيم الشريحي أخبرنا أبو إسحاق أحمد بن محمد بن إبراهيم الثعلبي أخبرنا عبد الله بن حامد أخبرنا محمد بن جعفر أخبرنا علي بن حرب أخبرنا أبو معاوية أخبرنا الأعمش عن عمرو بن مرة عن أبي عبيدة عن أبي موسى قال: قام فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم بخمس كلمات فقال: "إن الله لا ينام ولا ينبغي له أن ينام، ولكنه يخفض القسط، ويرفع إليه عمل الليل قبل عمل النهار وعمل النهار قبل عمل الليل، حجابه النور لو كشفه لأحرقت سبحات وجهه ما انتهى إليه بصره من خلقه". ورواه المسعودي عن عمرو بن مرة وقال: حجابه النار. {لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأرْضِ} ملكا وخلقا {مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلا بِإِذْنِهِ} بأمره {يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ} قال مجاهد وعطاء والسدي: {مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ} أمر الدنيا {وَمَا خَلْفَهُمْ} أمر الآخرة، وقال الكلبي: {مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ} يعني الآخرة لأنهم يقدمون عليها {وَمَا خَلْفَهُمْ} الدنيا لأنهم يخلفونها وراء ظهورهم، وقال ابن جريج: ما بين أيديهم ما مضى أمامهم وما خلفهم ما يكون بعدهم، وقال مقاتل: ما بين أيديهم، ما كان قبل خلق الملائكة وما خلفهم أي ما كان بعد خلقهم، وقيل: ما بين أيديهم أي ما قدموه من خير أو شر وما خلفهم ما هم فاعلوه {وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ} أي من علم الله {إِلا بِمَا شَاءَ} أن يطلعهم عليه يعني لا يحيطون بشيء من علم الغيب إلا بما شاء مما أخبر به الرسل كما قال الله تعالى: {فلا يظهر على غيبه أحدا إلا من ارتضى من رسول} (36- الجن) قوله تعالى: {وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضَ} أي ملأ وأحاط به، واختلفوا في الكرسي فقال الحسن: هو العرش نفسه. وقال أبو هريرة رضي الله عنه: الكرسي موضوع أمام العرش ومعنى قوله: "وسع كرسيه السماوات والأرض" أي سعته مثل سعة السماوات والأرض، وفي الأخبار أن السماوات والأرض في جنب الكرسي كحلقة في فلاة، والكرسي في جنب العرش كحلقة في فلاة. ويروى عن ابن عباس رضي الله عنهما أن السماوات السبع والأرضين السبع في الكرسي كدراهم سبعة ألقيت في ترس. وقال علي ومقاتل: كل قائمة من الكرسي طولها مثل السماوات السبع والأرضين السبع، وهو بين يدي العرش، ويحمل الكرسي أربعة أملاك، لكل ملك أربعة وجوه، وأقدامهم في الصخرة التي تحت الأرض السابعة السفلى مسيرة خمسمائة عام، ملك على صورة سيد البشر آدم عليه السلام، وهو يسأل للآدميين الرزق والمطر من السنة إلى السنة، وملك على صورة سيد الأنعام وهو الثور وهو يسأل للأنعام الرزق من السنة إلى السنة وعلى وجهه غضاضة منذ عبد العجل، وملك على صورة سيد السباع وهو الأسد يسأل للسباع الرزق من السنة إلى السنة، وملك على صورة سيد الطير وهو النسر يسأل الرزق للطير من السنة إلى السنة وفي بعض الأخبار أن ما بين حملة العرش وحملة الكرسي سبعين حجابا من ظلمة وسبعين حجابا من نور غلظ كل حجاب مسيرة خمسمائة عام لولا ذلك لاحترق حملة الكرسي من نور حملة العرش. وروى سعيد بن جبير عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: أراد بالكرسي علمه وهو قول مجاهد، ومنه قيل لصحيفة العلم كراسه، وقيل: كرسيه ملكه وسلطانه، والعرب تسمي الملك القديم كرسيا، {وَلا يَئُودُه} أي لا يثقله ولا يشق عليه يقال: آدني الشيء أي أثقلني {حِفْظُهُمَا} أي حفظ السماوات والأرض {وَهُوَ الْعَلِيُّ} الرفيع فوق خلقه والمتعالى عن الأشياء والأنداد، وقيل العلي بالملك والسلطنة {الْعَظِيم} الكبير الذي لا شيء أعظم منه. قوله تعالى: {لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ} قال سعيد بن جبير عن ابن عباس رضي الله عنهما: كانت المرأة من الأنصار تكون مقلاة- المقلاة من النساء لا يعيش لها ولد- وكانت تنذر لئن عاش لها ولد لتهودنه فإذا عاش ولدها جعلته في اليهود، فجاء الإسلام وفيهم منهم فلما أجليت بنو النضير كان فيهم عدد من أولاد الأنصار فأرادت الأنصار استردادهم وقالوا: هم أبناؤنا وإخواننا فنزلت هذه الآية {لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ} فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم "خيروا أصحابكم فإن اختاروكم فهم منكم وإن اختاروهم فأجلوهم معهم". وقال مجاهد: كان ناس مسترضعين في اليهود من الأوس فلما أمر النبي صلى الله عليه وسلم بإجلاء بني النضير قال الذين كانوا مسترضعين فيهم: لنذهبن معهم ولندينن بدينهم، فمنعهم أهلوهم، فنزلت {لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ}. وقال مسروق: كان لرجل من الأنصار من بني سالم بن عوف ابنان فتنصرا قبل مبعث النبي صلى الله عليه وسلم ثم قدما المدينة في نفر من النصارى يحملون الطعام فلزمهما أبوهما وقال: لا أدعكما حتى تسلما، فتخاصما إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله أيدخل بعضي النار وأنا أنظر فأنزل الله تعالى {لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ} فخلى سبيلهما. وقال قتادة وعطاء: نزلت في أهل الكتاب إذا قبلوا الجزية، وذلك أن العرب كانت أمة أمية لم يكن لهم كتاب فلم يقبل منهم إلا الإسلام، فلما أسلموا طوعا أو كرها أنزل الله تعالى: {لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ} فأمر بقتال أهل الكتاب إلى أن يسلموا أو يقروا بالجزية فمن أعطى منهم الجزية لم يكره على الإسلام، وقيل كان هذا في الابتداء قبل أن يؤمر بالقتال فصارت منسوخة بآية السيف، وهو قول ابن مسعود رضي الله عنه {قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ} أي الإيمان من الكفر والحق من الباطل {فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ} يعني الشيطان، وقيل: كل ما عبد من دون الله تعالى فهو طاغوت، وقيل كل ما يطغي الإنسان، فَاعُوْل من الطغيان، زيدت التاء فيه بدلا من لام الفعل، كقولهم حانوت وتابوت، فالتاء فيها مبدلة من هاء التأنيث {وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ} أي تمسك واعتصم بالعقد الوثيق المحكم في الدين، والوثقى تأنيث الأوثق وقيل العروة الوثقى السبب الذي يوصل إلى رضا الله تعالى: {لا انْفِصَامَ لَهَا} لا انقطاع لها {وَاللَّهُ سَمِيعٌ} قيل: لدعائك إياهم إلى الإسلام {عَلِيم} بحرصك على إيمانهم.
{اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (257)}. قوله تعالى: {اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا} ناصرهم ومعينهم، وقيل: محبهم، وقيل متولي أمورهم لا يكلهم إلى غيره، وقال الحسن: ولي هدايتهم {يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ} أي من الكفر إلى الإيمان قال الواقدي: كل ما في القرآن من الظلمات والنور فالمراد منه الكفر والإيمان غير التي في سورة الأنعام، "وجعل الظلمات والنور" فالمراد منه الليل والنهار، سمي الكفر ظلمة لالتباس طريقه وسمي الإسلام نورا لوضوح طريقه {وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ} قال مقاتل: يعني كعب بن الاشرف وحيي بن أخطب وسائر رءوس الضلالة {يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ} يدعونهم من النور إلى الظلمات، والطاغوت يكون مذكرا ومؤنثا وواحدا وجمعا، قال تعالى في المذكر والواحد: " {يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ} (60- النساء) وقال في المؤنث: "والذين اجتنبوا الطاغوت أن يعبدوها" (17- الزمر) وقال في الجمع: {يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ} فإن قيل: قال: يخرجونهم من النور وهم كفار لم يكونوا في نور قط؟ قيل: هم اليهود كانوا مؤمنين بمحمد صلى الله عليه وسلم قبل أن يبعث لما يجدون في كتبهم من نعته، فلما بعث كفروا به، وقيل: هو على العموم في حق جميع الكفار، قالوا: منعهم إياهم من الدخول فيه إخراج كما يقول الرجل لأبيه أخرجتني من مالك ولم يكن فيه، كما قال الله تعالى إخبارا عن يوسف عليه السلام: "إني تركت ملة قوم لا يؤمنون بالله" (37- يوسف) ولم يكن قط في ملتهم {أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ}.
{أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (258)}. قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ} معناه هل انتهى إليك يا محمد خبر الذي حاج إبراهيم أي خاصم وجادل، وهو نمرود وهو أول من وضع التاج على رأسه، وتجبر في الأرض وادعى الربوبية؟ {أَنْ آتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ} أي لأن آتاه الله الملك فطغى أي كانت تلك المحاجة من بطر الملك وطغيانه، قال مجاهد: ملك الأرض أربعة، مؤمنان وكافران فأما المؤمنان فسليمان وذو القرنين، وأما الكافران فنمرود وبختنصر. واختلفوا في وقت هذه المناظرة، قال مقاتل: لما كسر إبراهيم الأصنام سجنه نمرود ثم أخرجه ليحرقه بالنار فقال له: من ربك الذي تدعونا إليه؟ فقال ربي الذي يحيي ويميت، وقال آخرون: كان هذا بعد إلقائه في النار، وذلك أن الناس قحطوا على عهد نمرود وكان الناس يمتارون من عنده الطعام، فكان إذا أتاه الرجل في طلب الطعام سأله من ربك؟ فإن قال أنت، باع منه الطعام، فأتاه إبراهيم فيمن أتاه فقال له نمرود: من ربك؟ قال: ربي الذي يحيي ويميت فاشتغل بالمحاجة ولم يعطه شيئا فرجع إبراهيم فمر على كثيب من رمل أعفر فأخذ منه تطييبا لقلوب أهله إذا دخل عليهم، فلما أتى أهله ووضع متاعه نام، فقامت امرأته إلى متاعه ففتحته فإذا هو أجود طعام ما رآه أحد، فأخذته فصنعت له منه فقربته إليه فقال: من أين هذا؟ قالت من الطعام الذي جئت به فعرف أن الله رزقه، فحمد الله. قال الله تعالى: {إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ} وهذا جواب سؤال غير مذكور تقديره قال له: من ربك؟ فقال إبراهيم {رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ} قرأ حمزة {رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ} بإسكان الياء وكذلك "حرم ربي الفواحش" (33- الأعراف) و"عن آياتي الذين يتكبرون" (146- الأعراف) و"قل لعبادي الذين" (31- إبراهيم) و "آتاني الكتاب" (30- مريم) و"مسني الضر" (83- الأنبياء) و"عبادي الصالحون" (105- الأنبياء) و"عبادي الشكور" (13- سبأ) و"مسني الشيطان" (41- ص) و"إن أرادني الله" (38- الزمر) و"إن أهلكني الله" (28- الملك) أسكن الياء فيهن حمزة، ووافق ابن عامر والكسائي في "لعبادي الذين آمنوا" وابن عامر "آياتي الذين" وفتحها الآخرون، {قَال} نمرود {أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ}. قرأ أهل المدينة {أنا} بإثبات الألف والمد في الوصل إذا تلتها ألف مفتوحة أو مضمومة والباقون بحذف الألف، ووقفوا جميعا بالألف، قال أكثر المفسرين: دعا نمرود برجلين فقتل أحدهما واستحيا الآخر فجعل ترك القتل إحياء له، فانتقل إبراهيم إلى حجة أخرى، لا عجزا، فإن حجته كانت لازمة لأنه أراد بالإحياء إحياء الميت فكان له أن يقول: فأحي من أمت إن كنت صادقا فانتقل إلى حجة أخرى أوضح من الأولى. {قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ} أي تحير ودهش وانقطعت حجته. فإن قيل: كيف بهت وكان يمكنه أن يعارض إبراهيم فيقول له: سل أنت ربك حتى يأتي بها من المغرب قيل: إنما لم يقله لأنه خاف أن لو سأل ذلك دعا إبراهيم ربه فكان زيادة في فضيحته وانقطاعه، والصحيح أن الله صرفه عن تلك المعارضة إظهارا للحجة عليه أو معجزة لإبراهيم عليه السلام {وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ}.
{أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا قَالَ أَنَّى يُحْيِي هَذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا فَأَمَاتَهُ اللَّهُ مِائَةَ عَامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ قَالَ كَمْ لَبِثْتَ قَالَ لَبِثْتُ يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالَ بَلْ لَبِثْتَ مِائَةَ عَامٍ فَانْظُرْ إِلَى طَعَامِكَ وَشَرَابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ وَانْظُرْ إِلَى حِمَارِكَ وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً لِلنَّاسِ وَانْظُرْ إِلَى الْعِظَامِ كَيْفَ نُنْشِزُهَا ثُمَّ نَكْسُوهَا لَحْمًا فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ قَالَ أَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (259)}. قوله تعالى: {أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ} وهذه الآية منسوقة على الآية الأولى، تقديره {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ} وإلى الذي مر على قرية، وقيل: تقديره هل رأيت الذي حاج إبراهيم في ربه، وهل رأيت الذي مر على قرية؟ واختلفوا في ذلك المار، فقال قتادة وعكرمة والضحاك: هو عزير بن شرخيا، وقال وهب بن منبه: هو أرميا بن حلقيا، وكان من سبط هارون، وهو الخضر وقال مجاهد: هو كافر شك في البعث، واختلفوا في تلك القرية فقال وهب وعكرمة وقتادة: هي بيت المقدس، وقال الضحاك: هي الأرض المقدسة، وقال الكلبي: هي دير سابر أباد، وقال السدي: مسلم باذ، وقيل ديرهرقل، وقيل: هي الأرض التي أهلك الله فيها الذين خرجوا من ديارهم وهم ألوف، وقيل: هي قرية العنب، وهي على فرسخين من بيت المقدس {وَهِيَ خَاوِيَةٌ} ساقطة يقال: خوي البيت بكسر الواو يخوي خوى، مقصورا، إذا سقط وخوى البيت بالفتح خواء ممدودا إذا خلا {عَلَى عُرُوشِهَا} سقوفها، واحدها عرش وقيل: كل بناء عرش، ومعناه: أن السقوف سقطت ثم وقعت الحيطان عليها. {قَالَ أَنَّى يُحْيِي هَذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا} وكان السبب في ذلك على ما روى محمد بن إسحاق بن منبه أن الله تعالى بعث إرمياء إلى ناشية بن أموص ملك بني إسرائيل يسدده في ذلك ويأتيه بالخبر من الله عز وجل، فعظمت الأحداث في بني إسرائيل وركبوا المعاصي فأوحى الله تعالى إلى إرمياء: أن ذكر قومك نعمي وعرفهم أحداثهم وادعهم إلي، فقال إرمياء إني ضعيف إن لم تقوني، عاجز إن لم تبلغني، مخذول إن لم تنصرني، فقال الله عز وجل: أنا ألهمك، فقام إرمياء فيهم ولم يدر ما يقول فألهمه الله في الوقت خطبة بليغة طويلة بين لهم فيها ثواب الطاعة وعقاب المعصية، وقال في آخرها عن الله تعالى: وإني أحلف بعزتي لأقيضن لهم فتنة يتحير فيها الحكيم، ولأسلطن عليهم جبارا فارسيا ألبسه الهيبة وأنزع من صدره الرحمة يتبعه عدد مثل سواد الليل المظلم، ثم أوحى الله إلى إرمياء إني مهلك بني إسرائيل بيافث، ويافث من أهل بابل، وهم من ولد يافث بن نوح عليه السلام، فلما سمع إرمياء ذلك صاح وبكى وشق ثيابه ونبذ الرماد على رأسه فلما سمع الله تضرعه وبكاءه ناداه: يا أرمياء أشق عليك ما أوحيت إليك قال: نعم يا رب أهلكني قبل أن أرى في بني إسرائيل ما لا أسر به فقال الله تعالى: وعزتي لا أهلك بني إسرائيل حتى يكون الأمر في ذلك من قبلك، ففرح إرمياء بذلك وطابت نفسه، فقال: لا والذي بعث موسى بالحق لا أرضى بهلاك بني إسرائيل، ثم أتى الملك فأخبره بذلك وكان ملكا صالحا فاستبشر وفرح فقال: إن يعذبنا ربنا فبذنوب كثيرة وإن عفا عنا فبرحمته. ثم إنهم لبثوا بعد الوحي ثلاث سنين لم يزدادوا إلا معصية وتماديا في الشر وذلك حين اقترب هلاكهم فقل الوحي، ودعاهم الملك إلى التوبة، فلم يفعلوا، فسلط الله عليهم بختنصر، فخرج في ست مائة ألف راية يريد أهل بيت المقدس، فلما فصل سائرا أتى الملك الخبر، فقال لإرمياء: أين ما زعمت أن الله أوحي إليك؟ فقال إرمياء: إن الله لا يخلف الميعاد وأنا به واثق فلما قرب الأجل بعث الله إلى إرمياء ملكا قد تمثل له رجلا من بني إسرائيل فقال له إرمياء: من أنت؟ قال: أنا رجل من بني إسرائيل أتيتك أستفتيك في أهل رحمي وصلت أرحامهم ولم آت إليهم إلا حسنا ولا يزيدهم إكرامي إياهم إلا إسخاطا لي فأفتني فيهم، قال: أحسن فيما بينك وبين الله وصلهم وأبشر بخير. فانصرف الملك فمكث أياما ثم أقبل إليه في صورة ذلك الرجل فقعد بين يديه فقال: أنا الذي أتيتك في شأن أهلي، فقال له إرمياء: أما طهرت أخلاقهم لك بعد؟ قال: يا نبي الله والذي بعثك بالحق ما أعلم كرامة يأتيها أحد من الناس إلا رحمة إلا قدمتها إليهم وأفضل، فقال له النبي إرمياء عليه السلام: ارجع فأحسن إليهم أسأل الله الذي يصلح عباده الصالحين أن يصلحهم، فقام الملك، فمكث أياما وقد نزل بختنصر وجنوده حول بيت المقدس بأكثر من الجراد ففزع منهم بنو إسرائيل فقال ملكهم لإرمياء: يا نبي الله أين ما وعدك الله. قال: إني بربي واثق، ثم أقبل الملك إلى إرمياء وهو قاعد على جدار بيت المقدس يضحك ويستبشر بنصر ربه عز وجل الذي وعده، فقعد بين يديه فقال: أنا الذي أتيتك في شأن أهلي مرتين، فقال النبي: ألم يأن لهم أن يفيقوا من الذي هم فيه؟ فقال الملك: يا نبي الله كل شيء كان يصيبني منهم قبل اليوم كنت أصبر عليه، فاليوم رأيتهم في عمل لا يرضي الله: فقال النبي: على أي عمل رأيتهم؟ قال: على عمل عظيم من سخط الله فغضب الله وأتيتك لأخبرك، وإني أسألك بالله الذي بعثك بالحق نبيا إلا ما دعوت الله عليهم ليهلكهم، فقال إرمياء: يا مالك السماوات والأرض إن كانوا على حق وصواب فأبقهم وإن كانوا على عمل لا ترضاه فأهلكهم، فلما خرجت الكلمة من فم إرمياء، أرسل الله صاعقة من السماء في بيت المقدس فالتهب مكان القربان وخسف بسبعة أبواب من أبوابها، فلما رأى ذلك إرمياء صاح وشق ثيابه ونبذ الرماد على رأسه وقال: يا مالك السماوات أين ميعادك الذي وعدتني؟ فنودي أنه لم يصيبهم ما أصابهم إلا بفتياك ودعائك، فاستيقن النبي عليه السلام أنها فتياه وأن ذلك السائل كان رسول الله صلى الله عليه وسلم فطار إرمياء حتى خالط الوحوش. ودخل بختنصر وجنوده بيت المقدس ووطئ الشام وقتل بني إسرائيل حتى أفناهم وخرب بيت المقدس، ثم أمر جنوده أن يملأ كل رجل منهم ترسه ترابا فيقذفه في بيت المقدس، ففعلوا حتى ملؤوه، ثم أمرهم أن يجمعوا من كان في بلدان بيت المقدس فاجتمع عندهم صغيرهم وكبيرهم من بني إسرائيل، فاختار منهم سبعين ألف صبي فقسمهم بين الملوك الذين كانوا معه، فأصاب كل رجل منهم أربعة غلمة، وكان من أولئك الغلمان دانيال وحنانيا، وفرق من بقي من بني إسرائيل ثلاث فرق، فثلثا قتلهم، وثلثا سباهم، وثلثا أقرهم بالشام، وكانت هذه الواقعة الأولى التي أنزلها الله في بني إسرائيل بظلمهم فلما ولى عنهم بختنصر راجعا إلى بابل ومعه سبايا بني إسرائيل أقبل إرمياء على حمار له معه عصير عنب في ركوة وسلة تين حتى غشى إيلياء، فلما وقف عليها ورأى خرابها قال: {أَنَّى يُحْيِي هَذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا}. وقال الذي قال إن المار كان عزيرا: وإن بختنصر لما خرب بيت المقدس وقدم بسبي بني إسرائيل ببابل كان فيهم عزير ودانيال وسبعة آلاف من أهل بيت داود فلما نجا عزير من بابل ارتحل على حمار له حتى نزل دير هرقل على شط دجلة فطاف في القرية فلم ير فيها أحدا، وعامة شجرها حامل فأكل من الفاكهة، واعتصر من العنب فشرب منه، وجعل فضل الفاكهة في سلة وفضل العصير في زق فلما رأى خراب القرية وهلاك أهلها قال: {أَنَّى يُحْيِي هَذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا} قالها تعجبا لا شكأ في البعث. رجعنا إلى حديث وهب قال: ثم ربط إرمياء حماره بحبل جديد فألقى الله تعالى عليه النوم فلما نام نزع الله منه الروح مائة عام وأمات حماره، وعصيره وتينه عنده فأعمى الله عنه العيون فلم يره أحد، وذلك ضحى، ومنع الله السباع والطير لحمه فلما مضى من موته سبعون سنة أرسل الله ملكا إلى ملك من ملوك فارس يقال له نوشك فقال: إن الله يأمرك أن تنفر بقومك فتعمر بيت المقدس وإيلياء حتى يعود أعمر ما كان، فانتدب الملك بألف قهرمان مع كل قهرمان ثلاثمائة ألف عامل وجعلوا يعمرونه، فأهلك الله بختنصر ببعوضة دخلت دماغه، ونجى الله من بقي من بني إسرائيل، ولم يمت ببابل وردهم جميعا إلى بيت المقدس ونواحيه وعمروها ثلاثين سنة وكثروا حتى عادوا على أحسن ما كانوا عليه فلما مضت المائة أحيا الله منه عينيه، وسائر جسده ميت، ثم أحيا جسده وهو ينظر إليه، ثم نظر إلى حماره فإذا عظامه متفرقة بيض، تلوح فسمع صوتا من السماء: أيتها العظام البالية إن الله يأمرك أن تجتمعي فاجتمع بعضها إلى بعض، واتصل بعضها ببعض ثم نودي أن الله يأمرك أن تكتسي لحما وجلدا فكانت كذلك ثم نودي: إن الله يأمرك أن تحيا، فقام بإذن الله ونهق، وعمر الله إرمياء فهو الذي يرى في الفلوات فذلك قوله تعالى: {فَأَمَاتَهُ اللَّهُ مِائَةَ عَامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ} أي أحياه {قَالَ كَمْ لَبِثْتَ} أي: كم مكثت؟ يقال: لما أحياه الله بعث إليه ملكا فسأله كم لبثت؟ {قَالَ لَبِثْتُ يَوْمًا} وذلك أن الله تعالى أماته ضحى في أول النهار وأحياه بعد مائة عام في آخر النهار قبل غيبوبة الشمس، فقال: لبثت يوما وهو يرى أن الشمس قد غربت، ثم التفت فرأى بقية من الشمس فقال {أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ} بل بعض يوم {قَال} الملك {بَلْ لَبِثْتَ مِائَةَ عَامٍ فَانْظُرْ إِلَى طَعَامِكَ} يعني التين {وَشَرَابِك} يعني العصير {لَمْ يَتَسَنَّهْ} أي لم يتغير، فكان التين كأنه قطف في ساعته والعصير كأنه عصر في ساعته. قال الكسائي: كأنه لم تأت عليه السنون. وقرأ حمزة والكسائي ويعقوب لم يتسن بحذف الهاء في الوصل وكذلك "فبهداهم اقتده" (90- الأنعام) وقرأ الآخرون بالهاء فيهما وصلا ووقفا، فمن أسقط الهاء في الوصل جعل الهاء صلة زائدة وقال: أصله يتسنى فحذف الياء بالجزم وأبدل منه هاء في الوقف وقال أبو عمرو: هو من التسنن بنونين: وهو التغير كقوله تعالى: "من حمأ مسنون" (26- الحج) أي متغير فعوضت من أحدى النونين ياء كقوله تعالى: "ثم ذهب إلى أهله يتمطى" (33- القيامة) أي يتمطط، وكقوله "وقد خاب من دساها" (10- الشمس) وأصله دسيتها، ومن أثبت الهاء في الحالين جعل الهاء أصلية لام الفعل، وهذا على قول من جعل أصل السنة السنهة وتصغيرها سنيهة والفعل من السانهة وإنما قال: لم يتسنه ولم يثنه مع أنه أخبر عن شيئين رد التغيير إلى أقرب اللفظين وهو الشراب واكتفى بذكر أحد المذكورين لأنه في معنى الآخر {وَانْظُرْ إِلَى حِمَارِكَ} فنظر فإذا هو عظام بيض فركب الله تعالى العظام بعضها على بعض فكساه اللحم والجلد وأحياه وهو ينظر {وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنَّاسِ} قيل الواو زائدة مقحمة. وقال الفراء أدخلت الواو فيه دلالة على أنها شرط لفعل بعدها معناه ولنجعلك آية أي: عبرة ودلالة على البعث بعد الموت قاله أكثر المفسرين، وقال الضحاك وغيره: إنه عاد إلى قريته شابا وأولاده وأولاد أولاده شيوخ وعجائز وهو أسود الرأس واللحية. قوله تعالى: {وَانْظُرْ إِلَى الْعِظَامِ كَيْفَ نُنْشِزُهَا} قرأ أهل الحجاز والبصرة ننشرها بالراء معناه نحييها يقال: أنشر الله الميت إنشارا ونشرة نشورا قال الله تعالى: "ثم إذا شاء أنشره" (22- عبس) وقال في اللازم "وإليه النشور" (15- الملك) وقرأ الآخرون بالزاي أي نرفعها من الأرض ونردها إلى مكانها من الجسد ونركب بعضها على بعض، وإنشاز الشيء رفعه وإزعاجه، يقال: أنشزته فنشز أي رفعته فارتفع. واختلفوا في معنى الآية، فقال الأكثرون: أراد به عظام حماره، وقال السدي: إن الله تعالى أحيا عزيرا ثم قال له: انظر إلى حمارك قد هلك وبليت عظامه فبعث الله تعالى ريحا فجاءت بعظام الحمار من كل سهل وجبل وقد ذهبت بها الطير والسباع فاجتمعت فركب بعضها في بعض وهو ينظر، فصار حمارا من عظام ليس فيه لحم ولا دم {ثُمَّ نَكْسُوهَا لَحْمًا} ثم كسا العظام لحما ودما فصار حمارا لا روح فيه، ثم أقبل ملك يمشي حتى أخذ بمنخر الحمار فنفخ فيه فقام الحمار ونهق بإذن الله. وقال قوم أراد به عظام هذا الرجل، وذلك أن الله تعالى لم يمت حماره بل أماته هو فأحيا الله عينيه ورأسه، وسائر جسده ميت، ثم قال: انظر إلى حمارك فنظر فرأى حماره قائما واقفا كهيئته يوم ربطه حيا لم يطعم ولم يشرب مائة عام ونظر إلى الرمة في عنقه جديدة لم تتغير، وتقدير الآية: {وَانْظُرْ إِلَى حِمَارِكَ} وانظر إلى عظامك كيف ننشزها وفي الآية تقديم وتأخير، وتقديرهما: وانظر إلى حمارك، وانظر إلى العظام كيف ننشزها ولنجعلك آية للناس. وقال قتادة عن كعب والضحاك عن ابن عباس رضي الله عنهما، والسدي عن مجاهد عن ابن عباس رضي الله عنهما: لما أحيا الله تعالى عزيرا بعد ما أماته مائة سنة ركب حماره حتى أتى محلته فأنكره الناس وأنكر الناس ومنازله فانطلق على وهم حتى أتى منزله فإذا هو بعجوز عمياء مقعدة قد أتى عليها مائة وعشرون سنة كانت عرفته وعقلته فقال لها عزير: يا هذه هذا منزل عزير؟ قالت: نعم هذا منزل عزير وبكت وقالت: ما رأيت أحدا من كذا وكذا سنة يذكر عزيرا قال: فإني أنا عزير، قالت: سبحان الله فإن عزيرا قد فقدناه من مائة سنة لم نسمع له بذكر قال: فإني أنا عزير كان الله أماتني مائة سنة ثم بعثني، قالت: فإن عزيرا كان رجلا مستجاب الدعوة ويدعو للمريض ولصاحب البلاء بالعافية، فادع الله أن يرد لي بصري حتى أراك فإن كنت عزيرا عرفتك، فدعا ربه ومسح بيده على عينيها فصحتا وأخذ بيدها وقال: قومي بإذن الله تعالى، فأطلق الله رجليها فقامت صحيحة، فنظرت إليه فقالت: أشهد أنك عزير، فانطلقت إلى بني إسرائيل وهم في أنديتهم ومجالسهم وابن لعزير شيخ كبير ابن مائة سنة وثمانية عشرة سنة وبنو بنيه شيوخ في المجلس، فنادت هذا عزير قد جاءكم، فكذبوها، فقالت: أنا فلانة مولاتكم دعا لي ربه فرد علي بصري وأطلق رجلي وزعم أن الله كان أماته مائة سنة ثم بعثه، فنهض الناس فأقبلوا إليه فقال ولده: كان لأبي شامة سوداء مثل الهلال بين كتفيه، فكشف عن كتفيه فإذا هو عزير. وقال السدي والكلبي: لما رجع عزير إلى قومه وقد أحرق بختنصر التوراة ولم يكن من الله عهد بين الخلق، فبكى عزير على التوراة فأتاه ملك بإناء فيه ماء فسقاه من ذلك الماء فمثلت التوراة في صدره فرجع إلى بني إسرائيل وقد علمه الله التوراة وبعثه نبيا، فقال: أنا عزير فلم يصدقوه فقال: إني عزير قد بعثني الله إليكم لأجدد لكم توراتكم قالوا: أملها علينا، فأملاها عليهم عن ظهر قلبه، فقالوا: ما جعل الله التوراة في صدر رجل بعدما ذهبت إلا أنه ابنه، فقالوا: عزير ابن الله، وستأتي القصة في سورة براءة إن شاء الله تعالى. قوله تعالى: {فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ} ذلك عيانا {قَالَ أَعْلَمُ} قرأ حمزة والكسائي مجزوما موصولا على الأمر على معنى قال الله تعالى له اعلم، وقرأ الآخرون أعلم بقطع الألف ورفع الميم على الخبر عن عزير أنه قال لما رأى ذلك أعلم {أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}.
{وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي قَالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلَى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءًا ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْيًا وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (260)}. قوله تعالى: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتَى} قال الحسن وقتادة وعطاء الخراساني وابن جريج: كان سبب هذا السؤال من إبراهيم عليه السلام أنه مر على دابة ميتة، قال ابن جريج: كانت جيفة حمار بساحل البحر، قال عطاء: في بحيرة طبرية، قالوا: فرآها وقد توزعتها دواب البحر والبر، فكان إذا مد البحر جاءت الحيتان ودواب البحر فأكلت منها فما وقع منها يصير في البحر، فإذا جزر البحر ورجع جاءت السباع فأكلن منها فما سقط منها يصير ترابا فإذا ذهبت السباع، جاءت الطير فأكلت منها فما سقط منها قطعتها الريح في الهواء، فلما رأى ذلك إبراهيم عليه السلام تعجب منها وقال: يا رب قد علمت لتجمعنها من بطون السباع وحواصل الطير وأجواف دواب البحر فأرني كيف تحييها لأعاين فأزداد يقينا، فعاتبه الله تعالى {قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى} يا رب علمت وآمنت {وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي} أي ليسكن قلبي إلى المعاينة والمشاهدة، أراد أن يصير له علم اليقين عين اليقين، لأن الخبر ليس كالمعاينة. وقيل كان سبب هذا السؤال من إبراهيم أنه لما احتج على نمرود فقال "ربي الذي يحيي ويميت" (258- البقرة) قال نمرود أنا أحيي وأميت فقتل أحد الرجلين، وأطلق الآخر، فقال إبراهيم: إن الله تبارك وتعالى يقصد إلى جسد ميت فيحييه، فقال له نمرود: أنت عاينته، فلم يقدر أن يقول نعم فانتقل إلى حجة أخرى، ثم سأل ربه أن يريه إحياء الموتى. {قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي} بقوة حجتي فإذا قيل أنت عاينته فأقول نعم قد عاينته. وقال سعيد بن جبير لما اتخذ الله تعالى إبراهيم خليلا سأل ملك الموت ربه أن يأذن له فيبشر إبراهيم بذلك فأذن له فأتى إبراهيم ولم يكن في الدار، فدخل داره وكان إبراهيم عليه السلام أغير الناس إذا خرج أغلق بابه، فلما جاء وجد في داره رجلا فثار عليه ليأخذه وقال له: من أذن لك أن تدخل داري؟ فقال: أذن لي رب هذه الدار، فقال إبراهيم: صدقت وعرف أنه ملك، فقال: من أنت؟ قال: أنا ملك الموت جئت أبشرك بأن الله تعالى قد اتخذك خليلا فحمد الله عز وجل، وقال: فما علامة ذلك؟ قال: أن يجيب الله دعاءك ويحيي الله الموتى بسؤالك، فحينئذ قال إبراهيم: {رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي} أنك اتخذتني خليلا وتجيبني إذا دعوتك. أخبرنا عبد الواحد بن أحمد المليحي، أخبرنا أحمد بن عبد الله النعيمي، أخبرنا محمد بن يوسف أخبرنا محمد بن إسماعيل، أخبرنا أحمد بن صالح، أنا ابن وهب، أخبرنا يونس عن ابن شهاب عن أبي سلمة بن عبد الرحمن وسعيد بن المسيب، عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "نحن أحق بالشك من إبراهيم إذ قال رب أرني كيف تحيي الموتى قال أولم تؤمن قال بلى ولكن ليطمئن قلبي، ورحم الله لوطا لقد كان يأوي إلى ركن شديد، ولو لبثت في السجن طول ما لبث يوسف لأجبت الداعي". وأخرج مسلم بن الحجاج هذا الحديث عن حرملة بن يحيى عن وهب بهذا الإسناد مثله وقال: "نحن أحق بالشك من إبراهيم إذ قال رب أرني كيف تحيي الموتى". حكى محمد بن إسحاق بن خزيمة عن أبي إبراهيم إسماعيل بن يحيى المزني أنه قال على هذا الحديث، لم يشك النبي صلى الله عليه وسلم ولا إبراهيم في أن الله قادر على أن يحيي الموتى وإنما شكا في أنه هل يجيبهما إلى ما سألا وقال أبو سليمان الخطابي: ليس في قوله نحن أحق بالشك من إبراهيم، اعتراف بالشك على نفسه ولا على إبراهيم، لكن فيه نفي الشك عنهما، يقول: إذا لم أشك أنا في قدرة الله تعالى على إحياء الموتى، فإبراهيم أولى بأن لا يشك، وقال ذلك على سبيل التواضع والهضم من النفس، وكذلك قوله: "لو لبثت في السجن طول ما لبث يوسف لأجبت الداعي" وفيه الإعلام أن المسألة من إبراهيم عليه السلام لم تعرض من جهة الشك، ولكن من قبل زيادة العلم بالعيان، فإن العيان يفيد من المعرفة والطمأنينة ما لا يفيده الاستدلال، وقيل: لما نزلت هذه الآية قال قوم: شك إبراهيم ولم يشك نبينا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم هذا القول تواضعا منه وتقديما لإبراهيم على نفسه. قوله {أَوَلَمْ تُؤْمِنْ} معناه قد آمنت فلم تسأل؟ شهد له بالإيمان كقول جرير: ألستم خير من ركب المطايا *** وأندى العالمين بطون راح يعني أنتم كذلك، ولكن ليطمئن قلبي بزيادة اليقين. {قَالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ} قال مجاهد وعطاء وابن جريج: أخذ طاووسا وديكا وحمامة وغرابا، وحكي عن ابن عباس رضي الله عنه: ونسرا بدل الحمامة. وقال عطاء الخراساني: أوحى إليه أن خذ بطة خضراء وغرابا أسود وحمامة بيضاء وديكا أحمر {فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ} قرأ أبو جعفر وحمزة {فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ} بكسر الصاد أي قطعهن ومزقهن، يقال صار يصير صيرا إذا قطع، وانصار الشيء انصيارا إذا انقطع. قال الفراء: هو مقلوب من صريت أصري صريا إذا قطعت، وقرأ الآخرون {فَصُرْهُنَّ} بضم الصاد ومعناه أملهن إليك ووجههن، يقال: صرت الشيء أصوره إذا أملته، ورجل أصور إذا كان مائل العنق، وقال عطاء: معناه اجمعهن واضممهن إليك يقال: صار يصور صورا إذا اجتمع ومنه قيل لجماعة النحل صور، ومن فسره بالإمالة والضم قال فيه إضمار معناه فصرهن إليك ثم قطعهن فحذفه اكتفاء بقوله: {ثُمَّ اجْعَلْ عَلَى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءًا} لأنه يدل عليه، وقال أبو عبيدة: فصرهن معناه قطعهن أيضا، والصور القطع. قوله تعالى: {ثُمَّ اجْعَلْ عَلَى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءًا} قرأ عاصم برواية أبي بكر {جُزْءًا} مثقلا مهموزا، والآخرون بالتخفيف والهمز، وقرأ أبو جعفر مشددة الزاي بلا همز وأراد به بعض الجبال. قال بعض المفسرين: أمر الله إبراهيم أن يذبح تلك الطيور وينتف ريشها ويقطعها ويخلط ريشها ودماءها ولحومها بعضها ببعض ففعل، ثم أمره أن يجعل أجزاءها على الجبال. واختلفوا في عدد الأجزاء والجبال فقال ابن عباس رضي الله عنهما وقتادة: أمر أن يجعل كل طائر أربعة أجزاء ويجعلها على أربعة أجبل على كل جبل ربعا من كل طائر وقيل: جبل على جانب الشرق، وجبل على جانب الغرب، وجبل على جانب الشمال، وجبل على جانب الجنوب. وقال ابن جريج والسدي: جزأها سبعة أجزاء ووضعها على سبعة أجبل وأمسك رءوسهن ثم دعاهن: تعالين بإذن الله تعالى، فجعلت كل قطرة من دم طائر تطير إلى القطرة الأخرى، وكل ريشة تطير إلى الريشة الأخرى، وكل عظم يصير إلى العظم الآخر، وكل بضعة تصير إلى الأخرى، وإبراهيم ينظر، حتى لقيت كل جثة بعضها بعضا في الهواء بغير رأس ثم أقبلن إلى رءوسهن سعيا فكلما جاء طائر مال برأسه فإن كان رأسه دنا منه، وإن لم يكن تأخر، حتى التقى كل طائر برأسه فذلك قوله تعالى {ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْيًا} قيل المراد بالسعي الإسراع والعدو، وقيل المراد به المشي دون الطيران كما قال الله تعالى "فاسعوا إلى ذكر الله" (9- الجمعة) أي فامضوا، والحكمة في المشي دون الطيران كونه أبعد من الشبهة لأنها لو طارت لتوهم متوهم أنها غير تلك الطير وإن أرجلها غير سليمة والله أعلم. وقيل السعي بمعنى الطيران {وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ}.
|